الحمد لله الذي خلق عباده ليبلوهم أيهم أحسن عملاً ،والصلاة والسلام على خير خلق الله الذي قال( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) ، وعلى آله وأصحابه الأطهار خير من عبد الله وتقرب إليه بعد الأنبياء وعلى من تبعهم من عباد الله الأصفياء إلى يوم الدين أما بعد:
عباد الله : إن الله عز وجل خلق الخلق لطاعته وعبادته ، ومن أفضل وأعظم المواسم التي يُعبد فيها الله ،ويُتقرب إليه بأنواع القرب والطاعات؛ شهرُ رمضان المبارك الذي اجتمعت فيه أنواعٌ كثيرة من الطاعات، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل .
ولكن أيها المؤمنون جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على الحث على عمل أفضل وأحب الأعمال وأقربها إلى الله ، ويتأكد هذا عند تزاحم الطاعات والعبادات ، بل جاءت النصوص بإتقان العمل الواحد حتى يكونَ مقبولاً ويكونَ أعظم أجراً ، فليس الشأن في أداء العبادات ولكن الشأن في إتقانها وأداءها على أحب وأفضل وأحسن الوجوه التي يريدها الله ، وفي هذا الأمر تتفاوت الهمم ويتفاوت الفقه بين عباد الله المتقربين له بالطاعة .
وحديثنا اليوم عن فقه التعبد في رمضان ، لأننا نتحدث دائما عن الطاعات والحث عليها في رمضان وهذا أمر مطلوب ولكن أين الحديث عن أفضل وأقرب الطرق في العبادة؟ وما الفقه الصحيح في هذا التعبد خلال هذا الشهر المبارك؟، وليس الشأن أن تعرف الخير والشر ولكن الشأن أن تعرف خير الخيرين فتعمل به وشر الشرين فتجتنبه ، ولعي أوجز معالم هذا الفقه في التعبد من خلال القواعد التاليه :
القاعدة الأولى: النظر في مقاصد التشريع في العبادات لا النظر في أداءها مجردة :
إن من ينظر في مقاصد الشرع في العبادات يجد لها طعماً ويتلذذ بها ويشعر بمعنى العبودية فيشعر المؤمن بأثرها في القلب، ويظهر ذلك على الجوارح ، ولهذه القاعدة أمثلةوصور كثيرة منها :
الحكمة من فرض الصوم : المقصد من فرض الصوم والعبادات ليس تعذيب النفس وإجهادها ولكن تهذيب النفس وتربيتها على الفضائل وجاءت الإشارة إليه في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) فالصوم شرع لتهذيب القلوب والسلوك والله عزوجل قال (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) فالفقيه من المسلمين الذي يحقق هذه الغاية فيجتنب الحرام ويؤدي الواجبات فيحقق المقصود من هذه العبادة العظيمة
القاعدة الثانية :الاهتمام بأعظم العبادات في هذا الشهر :
من نظر في النصوص الشرعية الواردة في الحث على الطاعات في رمضان يجد أنها ركزت على : الصيام في النهار والقيام في الليل وقراءة القرآن والدعاء والإنفاق ، فشهر رمضان شهر الصوم ، وفضله معلوم وقد تقدمت الإشارة إليه وكذلك هو شهر التراويح والقيام وليلة القدر والإكثار من الدعاء يجمع هذا كله قول النبي صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) وقال (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) وقال (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، أما الإنفاق فإن رسول الله كان أجود بالخير من الريح المرسلة و كان أجود ما يكون في رمضان ، ومن الجود في رمضان تفطير الصائمين وخاصة المحتاجين ليعينهم على أداء العبادة فينال المفطِّرُ أجراً عظيماً مضاعفاً لشرف العبادة وشرف الزمان ، فالفقيه من المسلمين من يجعل النصيب الأوفى لهذه الطاعات ، وقد ظهر ذلك جلياً في عناية السلف في القرآن وتركيزهم على هذه العبادة لأنه شهر القرآن وهذايدل على فقههم في التعبد في رمضان ، ولاحرج ولا تثريب على من ختم القرآن في أقل من ثلاث لأن النهي إنما لمن داوم على ذلك قال ابن رجب رحمه الله :"وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك ، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان ، خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر ، أو في الأماكن المفضلة كمكة شرفها الله لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان وهذا قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة ، وعليه يدل عمل غيرهم "أ.هـ
القاعدة الثالثة : أن تعبد الله على ما جاء في سنة المصطفى وعمل الصحابة الكرام(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) ولو خالف عمل أهل بلدك وخالف العادة التي نشأت عليها فإن العمل لايقبل إلا بشرطين : أن يكون خالصاً لوجه الله وأن يكون على وفق ما شرع الله على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، والأجر يعظم ليس بكثرة العمل ومشقته وإنما بقدر متابعته وموافقته لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود عليه ، فيجب معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه والاقتداء به وفي قيامه وماهي الكيفيات التي وردت عنه في القيام فينوع فيها المسلم حتى يحي السنة ،وتطيبيق السنة يكون في الكيفية وفي العدد ولا يهمل النظر في عمل الصحابة خاصة ما كان منهم إجماعاً ، وكذلك الحرص على هديه صلى الله عليه وسلم في الدعاء وعدم الاعتداء والتجاوز فيه فهو أحرى للقبول .
القاعدة الرابعة : تقديم العناية والاهتمام بالفرائض على العناية بالنوافل :
لما جاء في الحديث القدسي : ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ...الحديث )، ومن الصور التي يمكن أن يمثل بها : الصورة الأولى:عناية بعض الناس بالخشوع في التراويح وإهمال ذلك في صلاة العشاء مع أن العشاء فرض والتراويح سنة فالاعتناء بالعشاء أولى فهو أحب وأرضى لله ،الصورة الثانية : الاهتمام بقيام الليل والنوم عن صلاة الفجر ، أو عن الصلوات المفروضة الأخرى كالظهر مثلاً وهذا يكثر في العشر الأواخر ، الصورة الثالثة : حرص البعض على مجاورة بيت الله الحرام في العشر الأواخر ولاشك في أنه عمل فاضل ولكن قد يهمل ويفرط في العناية بأهله فيتركهم يقضون أفضل الليالي في العام كله في التسكع والتنقل بين الأسواق بل ربما وقعوا في كثير من المنكرات التي لا تخفى على كثير من الناس فتربيتهم ومتابعتهم وحثهم على العبادة واجب والتفرغ للعبادة سنة فإذا لم يمكن أن يجمع بين الأمرين فليقدم الواجب على المستحب والله المستعان.
القاعدة الخامسة : الحرص على ما يحبه الله من العبادات لا ما يوافق مانهواه ونشتهيه :
فالله سبحانه يقول :{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فالإنفاق بالمال لاتريده النفوس لكن الله عز وجل يريده بل هو من أحب الأعمال إليه وكلما كان المال محبباً لنفوسنا ويصعب علينا مفارقته كان الإنفاق فيه أقرب وأرجى للقبول وهنا نهمس في آذان المقتدرين على الإنفاق ونقول لهم :اعلموا أنه كلما كان المال الذي تريدون أن تتقربوا فيه إلى الله محبباً إلى قلوبكم فهو من أرضى العبادات وأقربها إلى المولى خاصة في هذا الشهر الكريم ، وكذلك من الصور في تطبيق مثل هذه القاعدة: أنه ينبغي تقديم الإنفاق بالمال على من كان أشد حاجة وما كان أكثر نفعاً للمسلمين ، ولهذا يظهر غلط بعض من ينفق بشكل معتاد على من يعرفهم ولكن لتعوده ولمحبته لهؤلاء ولموافقته لما يريده ينفق عليهم مع استغنائهم والواجب البحث عن أكثر الناس حاجة .، أن الإنفاق على مجالات الدعوة والإصلاح التي ينتفع بها المئات من المسلمين وغير المسلمين أولى بالدعم والإنفاق على ماكان نفعه خاصاً بشخص أو أفراد معدودين.
ومن الصور كذلك : أن بعض الناس يحجم عن العمرة في رمضان لأن لايريد أن يتعب ، ولم ينظر إلى عظيم الأجر الوارد فيها (عمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ).
القاعدة السادسة : تتفاضل العبادات بحسب الأحوال والحوادث والأزمان والأماكن :
فتقدم العبادة المفضولة التي هي أرضى لله في ذلك الوقت على العبادة الفاضلة في غير ه، فالنبي صلى الله عليه وسلم على كثرة ما ورد من فضل الصيام وأنه من أسباب دخول الجنة ، ولكنه لما جاءه ظرف طاريء وهو الجهاد في سبيل الله رأى أن الأقرب لله في هذا الموطن هو التقرب إلى الله بجهاد الكفار وحفظ بيضة المسلمين والدفاع عن حرماتهم ففي غزوة بدر أفطر ليتقوى على قتال الكفار وكذلك في فتح مكة قام وشرب أمام الناس بعد العصر حتى يقتدوا به ، وهذا إمام الفقهاء شيخ الإسلام لما غزا التتار بلاد الشام قام وجمع الناس والعلماء والأمراء وحثهم على الجهاد ثم قام وشرب في نهار رمضان أمام الجند وحثهم على القتال وبين لهم أن هذا أقرب إلى الله في هذا الموطن ، ومن الصور التي يمكن أن يمثل بها :تُقدم العبادات التي قد يفوت وقتها على التي وقتها موسع، مثاله:يقدم الدعاء عند الفطر على قراءة القرآن مع أن قراءة القرآن أفضل ولكن في ذلك الوقت نقدم المفضول على الفاضل لأنه أرضى لله في هذا الوقت وأنفع للعبد لما ورد أن للصائم دعوة لاترد عند فطره .
القاعدة السابعة : فهم مصطلح العبادة فهماً صحيحاً فمن كان مفهوم العبادة لديه واسعاً اغتنم فرصاً كثيرة وكثر من حسناته وزاد رصيده عند ربه بخلاف من كان مفهوم العبادة عنده ضيقاً وهذا من الفقه في التعبد ، فالعبادة تشمل كل الأعمال الظاهرة والباطنة التي يتقرب بها إلى الله حتى تبسمك في وجه إخيك وحمل متاعه معه وإعانته عليه فإنها من الصدقات التي تكتب لك والكلمة الطيبة صدقة والأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة ، وحتى من نوى نية طيبة في جماع أهله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( وفي بضع أحدكم صدقة ) ، ومما يفوت على الناس من العبادات العظيمة في هذا الشهر حسن الخلق الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم
إنه أثقل شيء في الميزان ) وكما صح عنه أنه قال ( وإن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ) .فاللهم ارزقنا الفقه في عبادتك والفقه في جميع شرائع دينك ، وتقبل منا الصيام والقيام وسائر الأعمال وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .